الرباط – يونيو 2025
في وقت تشهد فيه القارة الإفريقية تراجعاً حاداً في تدفقات المساعدات الخارجية، وتفاقماً في أعباء الدين العام، برز المغرب كحالة استثنائية في المنطقة، من خلال تبنيه نموذج تمويل داخلي يراهن على الموارد الوطنية ويقلّص التبعية للمصادر الخارجية.
تحول استراتيجي في إدارة الموارد
بعيداً عن الاعتماد المفرط على المعونة الأجنبية، شرع المغرب منذ سنوات في إعادة تشكيل منظومته المالية، من خلال رفع مستوى الجباية، وتوسيع قاعدة دافعي الضرائب، واعتماد الرقمنة كأداة رقابة وشفافية. وقد مكنت هذه السياسات المملكة من تحقيق نسبة تعبئة ضريبية بلغت 21.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي من بين الأعلى في القارة.
كما ساهمت الإصلاحات العقارية والضريبية في تعزيز الإيرادات، حيث تفوّق المغرب على دول كبرى في تحصيل الضرائب العقارية، وهو مجال يكاد يغيب عن اقتصادات إفريقية أخرى.
صناديق سيادية في خدمة التنمية
اعتمد المغرب على مؤسساته السيادية كمحرك للتمويل الداخلي، وعلى رأسها صندوق الإيداع والتدبير، الذي ضخّ استثمارات مهمة في البنيات التحتية والإسكان، إلى جانب صندوق “إثمار كابيتال”، الذي يتولى تمويل المشاريع المرتبطة بالتحول الطاقي والتنمية المستدامة.
ويضع هذا التوجه المغرب ضمن دائرة الاقتصادات الإفريقية الأكثر ابتكاراً في أدوات التمويل، إلى جانب كل من مصر، كينيا، وجنوب إفريقيا.
اقتصاد متنوع وتوجه نحو القيمة المضافة
لا يقتصر النموذج المغربي على الجانب المالي، بل يتكامل مع سياسة اقتصادية تعتمد على تنويع القاعدة الإنتاجية. فبدلاً من تصدير المواد الخام، ركّز المغرب على الصناعات التحويلية، مثل صناعة السيارات، والطاقة الشمسية، والصناعات الفلاحية، ما جعله يتميز عن اقتصادات إفريقية لا تزال رهينة صادرات أولية.
ويمتلك المغرب أيضاً أحد أكبر احتياطات الفوسفات في العالم، ما يضعه في موقع استراتيجي ضمن سلاسل التوريد العالمية، خصوصاً في قطاع الأسمدة الحيوي.
توازن مالي رغم التحديات الإقليمية
وعلى خلاف العديد من الدول الإفريقية التي تواجه صعوبات مالية خانقة، استطاع المغرب الحفاظ على معدل خدمة دين لا يتجاوز 7.9% من إجمالي الدين العمومي، بفضل سياسة متوازنة في الاستدانة وتوجيه القروض نحو مشاريع إنتاجية، وليس لتغطية نفقات جارية.
فرص مستقبلية وتحديات قائمة
ورغم الأداء القوي، لا تزال هناك تحديات تواجه النموذج المغربي، منها حجم الاقتصاد غير المهيكل، وتفاوت التنمية بين المناطق، ومحدودية قدرات بعض المؤسسات المحلية في تعبئة الموارد.
لكن في المقابل، يشكل تنظيم المغرب لمؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ (COP29) فرصة لتعزيز مكانته كفاعل محوري في تمويل التحول الأخضر على المستوى الإفريقي، وجذب الاستثمارات البيئية في وقت يتزايد فيه الطلب العالمي على نماذج تنموية مستدامة.
يقدم المغرب نموذجاً متقدماً في إدارة التمويل السيادي عبر الاعتماد على الذات، والابتكار في تعبئة الموارد، والتخطيط الاستراتيجي للتنمية. وفي ظل الأزمة المالية الإفريقية المتفاقمة، يُمكن لتجربة المغرب أن تشكل خريطة طريق لبقية دول القارة الباحثة عن بدائل تمويلية بعيدة عن الديون والارتهان للخارج.