رغم ما تحمله الوساطة من مزايا اقتصادية وقانونية كوسيلة بديلة لحل النزاعات، فإن هذا المسار لا يزال يعاني من ضعف الانتشار في المغرب، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات، وذلك رغم مرور أكثر من 15 سنة على صدور القانون المنظم للوساطة الاتفاقية (القانون رقم 08.05).
فمنذ دخول القانون حيز التنفيذ سنة 2007، لم تُسجّل سوى حوالي 1.750 حالة وساطة في النزاعات التجارية، وهو رقم ضئيل مقارنة بحجم القضايا المعروضة أمام المحاكم. ومع ذلك، تشير الأرقام الرسمية إلى أن حوالي 80% من هذه القضايا تم حلها بنجاح، مما أتاح استرجاع ما يفوق 1.8 مليار درهم من المستحقات العالقة، وهو ما يعكس الأثر الاقتصادي الإيجابي لهذا الخيار البديل.
ويرى مختصون في الاقتصاد والقانون أن ضعف الثقافة القانونية لدى المواطن المغربي، بالإضافة إلى غياب ثقة راسخة في مساطر بديلة غير التقاضي، تشكل عائقًا رئيسيًا أمام بروز الوساطة كخيار أولي. كما أن غياب مراكز وساطة مؤهلة، وقلة عدد الوسطاء المعتمدين، يزيد من صعوبة الانتقال من منطق النزاع إلى منطق التوافق.
وتعمل الحكومة، في إطار مشروع إصلاح منظومة العدالة، على تطوير آليات الوساطة من خلال إدماجها ضمن المساطر القضائية، خصوصًا في المنازعات التجارية، حيث سيُخوَّل للقاضي اقتراح الوساطة قبل البت في القضية، بل وربما فرضها بشكل إلزامي في بعض الحالات، ما يشكل خطوة نحو تفعيل الوساطة القضائية كمكمل للمسار العدلي.
من جهته، يطالب الفاعلون الاقتصاديون بضرورة إدماج آلية الوساطة ضمن السياسات العمومية المتعلقة بالاستثمار وبيئة الأعمال، لما لها من أثر مباشر على تقليص آجال حل النزاعات، وخفض كلفة التقاضي، وتحسين مناخ الثقة بين الفاعلين.
كما دعا خبراء إلى ضرورة تأهيل المورد البشري عبر تكوين وسطاء مهنيين معتمدين، واعتماد إطار قانوني متطور يُنظّم تدخلاتهم، مع تشجيع الشركات على إحداث خلايا داخلية للوساطة، خاصة في قطاعات مثل التأمين، البنوك، والنقل.
وفي ظل التحديات الاقتصادية الراهنة، وتفاقم الضغط على الجهاز القضائي، يبدو أن تعزيز الوساطة كخيار اقتصادي وقانوني لم يعد رفاهية، بل ضرورة لتحقيق نجاعة اقتصادية وعدلية.